الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ولما كان الإنسان، وإن اجتهد في الإحسان، لابد أن يحتاج إلى الغفران، لما له من النقصان، لأن رتبة الإلهية لا تصل إلى القيام بحقها العوائق البشرية، بين أن الظلم المراد هنا إنما هو التجاوز في الحدود بغاية الشهوة فقال: {مبين} وأما غير ذلك فمغفور كما قرر في نحو {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} «ومن هم بسيئة ولم يعملها كتبت له حسنة» {وأن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} [النساء: 31].قصة ذبح إبراهيم لولده عليهما السلام من التوارة وبيان أنهم بدلوها، قال مترجمهم: فغرس إبراهيم ببئر سبع غرسًا، وبنى هنالك باسم الرب إله العالمين، وسكن إبراهيم أرض فلسطين- يعني عند تلك البئر- أيامًا كثيرة.ولما كان من بعد هذه الخطوب امتحن الله إبراهيم، وقال له: يا إبراهيم! فقال: لبيك، فقال له: انطلق بابنك الوحيد إسحاق الذي تحبه إلى أرض الأمورانيين- وفي نسخة: إلى بلدة العبادة- وأصعده إليّ قربانًا على أحد تلك الجبال الذي أقول لك، فأدلج إبراهيم باكرًا فأسرج حماره وانطلق بغلاميه وإسحاق ابنه، وشق حطبًا للقربان ونهض وانطلق إلى الموضع الذي قال الله له، وفي اليوم الثالث رفع إبراهيم بصره ونظر إلى ذلك الموضع من بعيد فقال لغلاميه: امكثا هاهنا عند الحمار، وأنا والغلام ننطلق إلى هاهنا نصل ونرجع إليكما، فأخذ إبراهيم حطب القربان، وحمله إسحاق ابنه، وأخذ معه نارًا وسكينًا، وانطلقا كلاهما جميعًا، وقال إسحاق لأبيه إبراهيم: يا أبة، فقال له: لبيك، فقال له: هذه النار والحطب، أين حمل القربان، فقال إبراهيم: الله يعد لنا حملًا للقربان يا بني، فانطلقا جميعًا حتى انتهيا إلى الموضع الذي قال الله، فبنى هنالك إبراهيم مذبحًا ونضد عليه الحطب وكتف إسحاق فوضعه في أعلى المذبح على الحطب، ومد يده إبراهيم فأخذ السكين ليذبح ابنه، فدعاه ملاك الرب من السماء وقال: يا إبراهيم يا إبراهيم، فقال: لبيك! فقال: لا تبسط يدك على الغلام ولا تصنع به شيئًا لأنك قد أظهرت الآن أنك تتقي الله إذا لم تمنعني ابنك الوحيد، فمد إبراهيم بصره فإذا كبش معلق في شجرة بقرنيه، فانطلق إبراهيم فأخذ الكبش فأصعده قربانًا بدل ابنه اسحاق، فسمى إبراهيم ذلك الموضع الله يتجلى كما يقال: الله في هذا الجبل، الله يتجلى، فدعا ملاك الرب إبراهيم ثانية من السماء وقال: بي أقسمت، يقول الرب: بدل ما صنعت هذا الصنيع ولم تمنعني ابنك الوحيد لأباركنك بركة تامة ولأكثرن نسلك مثل كواكب السماء، ومثل الرمل الذي على شاطئ البحر ويرث زرعك أراضي أعدائي وفي نسخة: أعداءه- ويتبارك بنسلك جميع الشعوب لأنك أطعتني، فرجع إبراهيم إلى غلاميه وانصرفوا جميعًا إلى بئر السبع وأقام ثمًّ- وفي نسخة: وسكن إبراهيم بئر السبع- انتهى ما عندهم بلفظه فانظر إليه واجمع بينه وبين ما تقدم في البقرة من قصة إسماعيل وإسحاق عليهما السلام تجدهم قد بدلوها بلا شك، لأن الكلام ينقض بعضه بعضًا، وذلك أنه قال في هذه القصة انطلق بابنك الوحيد وكرر وصفه بالوحيد في غير موضع، وهذا الوصف إنما يكون حقيقة لإسماعيل عليه السلام وهو دون البلوغ، وأما إسحاق عليه السلام فلم يكن وحيدًا ساعة من الدهر، بل ولد وإسماعيل عليه السلام ابن ثلاث عشرة سنة ونيف بشهادة ما عندهم من التوراة، وقوله في آخر القصة ويتبارك بنسلك جميع الشعوب لا يكون في غاية الملاءمة إلا لإسماعيل عليه السلام، وأما إسحاق عليه السلام فإنما بورك بنسله الأراضي المقدسة فقط، ولم يتبعهم من غيرهم إلا قليل، بل كانوا هم في كل قليل يتبعون غيرهم على عبادة أوثانهم بشهادة توراتهم وأسفار أنبيائهم يوشع بن نون ومن بعده عليهم السلام، وأما نسل إسماعيل عليه السلام فتبعهم على الدين الحق من جميع الأمم ما لا يحصى عدده ولم يتبعوا هم بعد محمد صلى الله عليه وسلم أحدًا من الأمم على عبادة غير الله- هذا وفي المتقدم في سورة البقرة أن هبة سارة أمتها هاجر رضى الله عنها لإبراهيم عليه السلام كان بعد أن سكن كنعان بعشر سنين، وأن إسماعيل عليه السلام ولد لإبراهيم عليه السلام وهو ابن ست وثمانين سنة، وأن الله تعالى أمره بالختان وهو ابن تسع وتسعين سنة، وأنه في ذلك الوقت بشر بإسحاق عليه السلام، فختن إسماعيل عليه السلام وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وثم ولد له إسحاق عليه السلام وقد أتى عليه مائة سنة، ثم قال ما نصه: وصنع إبراهيم يوم فطم إسحاق ابنه مأدبة عظيمة فأبصرت سارة ابن هاجر المصرية المولود لإبراهيم عليه السلام لاعبًا، فقالت لإبراهيم عليه السلام: أخرج هذه الأمة عني، لأن ابن الأمة لا يرث مع إسحاق ابني، فشق هذا الأمر على إبراهيم لمكان ابنه، فقال الله تعالى لإبراهيم عليه السلام: لا يشقن عليك حال الصبي وأمتك، أطع سارة في جميع ما تقول لأن نسلك إنما يذكر بإسحاق، وابن الأمة أجعله لشعب كثير لأنه من ذريتك، فغدا إبراهيم عليه السلام باكرًا وأخذ خبزًا وإداوة من ماء، فأعطاها هاجر وحملها الصبي والطعام- إلى آخر ما في البقرة فقوله إن هاجر طردت بعد فطام إسحاق وابنها تحمل لا يصح، وقد تقدم أن عمره يوم فطام إسحاق خمس عشرة سنة، وتقدم أيضًا أن سارة أمرته بطردها وهي حبلى، وأنه سلمها لها فطردتها، وان الملك لقيها فبشرها بإسماعيل ولم يذكر في نسختي- وهي قديمة جدًا- شيئًا يدل على رجوعها، وأما في نسخة عندهم فقال: إن الملك قال لها: ارجعي إلى سيدتك واستكدي تحت يدها- ولم يذكر أنها رجعت، وقد صح الخبر عندنا بقول نبينا صلى الله عليه وسلم أن إبراهيم عليه السلام وضع هاجر وابنها إسماعيل عليه السلام، عند البيت الحرام وهو يرضع، واستمرا هناك إلى أن ماتت هاجر رضى الله عنها، وتزوج إسماعيل عليه السلام وبنى البيت مع أبيه عليهما السلام، وقوله لأن نسلك إنما يذكر بإسحاق عليه السلام غير مطابق للواقع، فإن شهرة العرب بإبراهيم عليه السلام أن لم تكم أن أكثر من شهرة بني إسحاق بذلك فهي مثلها، وخبر الله لا يتخلف، فدل هذا كله أنهم بدلوا القصة وحرفوها، فلا متمسك فيها لهم، ودلالتها على أن الذبيح إسماعيل عليه السلام أولى من دلالتها على غير ذلك لوصفه بالوحيد- والله أعلم كيف كانت القصة قبل التبديل؟ ومما يدل على ما فهمت من تبديلهم لها ما قال البغوي: قال القرظي يعني محمد بن كعب-: سأل عمر بن عبد العزيز رجلًا كان من علماء اليهود أسلم وحسن إسلامه: أي ابني إبراهيم عليه السلام أمر بذبحه؟ فقال: إسماعيل يا أمير المؤمنين! إن اليهود لتعلم ذلك ولكنهم يحسدونكم معشر العرب على أن يكون أباكم الذي كان من أمر الله بذبحه ما كان، ويزعمون أنه أبوهم، ومن الدليل على أنه إسماعيل عليه السلام أن الله تعالى لما بشر بإسحاق بشر بأنه يولد له يعقوب، فلا يليق الامتحان به بعد علمه بأنه لا يموت حتى يولد له، ومن الدليل على ذلك أن قرني الكبش كانا منوطين بالكعبة في أيدي بني إسماعيل عيله السلام إلى أن احترق البيت واحترق القرنان في زمان ابن الزبير والحجاج، قال الشعبي: رأيت قرني الكبش منوطين بالكعبة، وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: والذين نفسي بيده! لقد كان أول الإسلام وإن رأس الكبش لمعلق بقرنيه في ميزاب الكعبة، وقال الأصمعي: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح: إسحاق كان أو إسماعيل؟ فقال: يا أصيمع! أين ذهب عقلك؟ متى كان إسحاق بمكة؟ إنما كان إسماعيل بمكة وهو الذي بني البيت مع أبيه- انتهى ما قال البغوي.وفي كتاب الحج من سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعثمان- وهو الحجبي- رضى الله عنه: «إني نسيت أن آمرك أن تخمر القرنين فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل المصلي» ورواه عبد الرزاق في جامعه ولفظه أن عثمان بن شيبة رضى الله عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «إني رأيت قرني الكبش فنسيت أن آمرك أن تخمرهما فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل مصليًا»- هكذا قال: عثمان بن شيبة، ولعله ابن طلحة، فيكون المتقدم ويكون تسمية أبيه شيبة وهما، أو يكون شيبة بن عثمان وهو ابن عم الذي عند أبي داود فأنقلب- والله أعلم، وروى عبد الرزاق أيضًا عن ابن جريح قال: أخبرنا عبد الله بن شيبة بن عثمان، وسألته هل كان في البيت قرنا كبش؟ قال: نعم، كانا فيه، قلت: أرأيتهما؟ قال: حسبت، ولكن أخبرني عبد الله بن بابيه أن قد رآهما، قال: وغيره قد رآهما فيه، قال: ويقولون: إنهما قرنا الكبش الذي ذبح إبراهيم عليه السلام، قال ابن جريج وقالت صفية ابنة شيبة: كان فيه قرنا الكبش، قال ابن جريح: وحدثت أن ابن عباس رضى الله عنهما قال: كانا فيه.قال: وحدثت عن عجوز قلت: رأيتهما فيه، ومما يؤيد القول بأنه إسماعيل عليه السلام وصف الله تعالى له بأنه صادق الوعد، ولا صدق في وعد أعظم من صدقه في وعده بالصبر على الذبح، وممن قال من بني إسرائيل أنه إسماعيل عليه السلام عبد الله بن سلام رضى الله عنه حكاه عن ابن الجوزي، وعد القائلين بكل من القولين من الصحابة وغيرهم فقال: إن القائلين بأنه إسحاق: عمر وعلي والعباس وابن مسعود وأبو موسى وأبو هريرة وأنس رضى الله عنه م، وبأنه إسماعيل: ابن عمر، وأن الرواية اختلفت عن ابن عباس- رضى الله عنهما، فروى عنه عكرمة أنه إسحاق، وعطاء ومجاهد والشعبي وأبو الجوزاء ويوسف بن مهران أنه إسماعيل، فعلم من هذا رجحان القول بأنه إسماعيل، لأن ابن عمر وابن عباس رضى الله عنهما تأخرا بعد من ذكر من أكابر الصحابة رضى الله عنه م أجمعين، فلولا أنه رجح عندهما ما خالفا أبويهما، ونقل عكرمة عن ابن عباس بموافقة أبيه لا يقدح في ذلك بل يؤيده لأن الأكثر كما ترى رووا عنه الثاني، فلولا أنه صح عنده ما رجع عن الأول الذي هو موافق لرأي أبيه، ولأجل ثباته عليه اشتهر عنه- والله أعلم. اهـ.
|